يقول المصنف: [فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها، قال تعالى: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ))[الملك:14] ].
فهو سبحانه وتعالى يعلم كل ما خلق؛ لأنه هو الذي قدره وهو الذي خلقه، فعَلِمه قبل أن يوجد، ثم خلقه وفق ما علم أنه سيكون عليه سبحانه وتعالى، دون أن يحدث وقوع شيء في خلقه زيادةً على علمه عز وجل لم تكن لديه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فلو تأمل الإنسان حياة كل الأحياء والموجودات؛ لوجد فيها من العجائب والغرائب ما يوحي ويدل دلالة قاطعة على أن الذي خلقها هو عليم حكيم خبير سبحانه وتعالى، وأحوال الإنسان أمامنا خير شاهد على ذلك، فنتأمل كيف يولد هذا الإنسان! وكيف يعيش ويشب ثم يشيب! وما الذي يحصل له من أمور! وكيف أنه أحياناً يذهب بنفسه إلى ما يظن أن فيه خيره وفلاحه ونجاته ويكون فيه الهلاك! وكيف يكون العكس أيضاً! وكيف تجري هذه المخلوقات من الكواكب والنجوم، والبحار، والجبال، والرياح، والأمطار، وفق سنن جعلها الله سبحانه وتعالى في منتهى الدقة والحكمة والإتقان!
فكل شيء لله تبارك وتعالى فيه آية وحكمة تدل على أن الله سبحانه وتعالى عليم حكيم خبير، أتقن كل شيء خلقه. فلا يتصور أن تكون هذه المخلوقات بهذه الدقة من الحكمة إلا من عالم قد سبق علمه على إيجاده لها، فأوجدها كذلك، ولو صدرت هذه المخلوقات من غير عالم لكان فيها من التخبط والفوضى والاضطراب الشيء الكثير، لكنها صادرة من عليم حكيم خبير لا يعجزه شيء، ولا حد لقدرته سبحانه وتعالى، بل هو على كل شيء قدير؛ ولهذا جاءت فيها هذه الحِكَمُ العجيبة التي خلقت لتدل على ما سيكون.
ولو تأملنا حال الإنسان وهو لا يزال في بطن أمه، فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه ما يؤهله إذا خرج إلى الحياة، فيجعله يتنفس، وقد كان في بطن أمه لا يتنفس، ويجعله يأكل، وقد كان في بطن أمه لا يأكل من فمه ولا يهضم بهذه الطريقة، وكذلك يعطيه ما يؤهله بعد أن تتم له مدة الرضاع فتكون له أسنان؛ لأنه في هذه الحال سينتقل من شرب السوائل إلى أكل المأكولات التي تحتاج إلى قواطع وأنياب وأضراس؛ فلولا أن الله سبحانه وتعالى يعلم أنه ستكون له هذه الحال لما خلقه سبحانه وتعالى بهذه الصورة، وهكذا كل المخلوقات، حتى هذه الأفلاك جعلها الله سبحانه وتعالى ((كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً))[لقمان:29]، فكل له حساب يجري إليه، وكل ذلك دليل على أن الله سبحانه وتعالى يعلم كيف ستكون عليه هذه المخلوقات قبل أن يخلقها، وأنه خلقها وأوجدها وفق علمه الذي لا يتبدل ولا يتغير.